سورة المزمل - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المزمل)


        


{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: في الآية تقديم وتأخير، أي فكيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم.
المسألة الثانية: ذكر صاحب الكشاف في قوله: {يَوْماً} وجوهاً الأول: أنه مفعول به، أي فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهوله إن بقيتم على الكفر والثاني: أن يكون ظرفاً أي وكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والثالث: أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة، والجزاء لأن تقوى الله لا معنى لها إلا خوف عقابه.
المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين الأول: قوله: {يَجْعَلُ الولدان شِيباً} وفيه وجهان الأول: أنه مثل في الشدة يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان، إذا تفاقمت على الإنسان، أسرع فيه الشيب، لأن كثرة الهموم توجب انقصار الروح إلى داخل القلب، وذلك الانقصار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية وانطفاء الحرارة الغريزية وضعفها، يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط، وذلك يوجب ابيضاض الشعر، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم، جعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الوالدان شيباً حقيقة، لأن إيصال الألم والخوف إلى الصبيان غير جائز يوم القيامة الثاني: يجوز أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب، ولقد سألني بعض الأدباء عن قول المعري:
وظلم يملأ الفودين شيباً ***
وقال: كيف يفضل هذا التشبيه الذي في القرآن على بيت المعري؟ فقلت: من وجوه:
الأول: أن امتلاء الفودين من الشيب ليس بعجب، أما صيرورة الولدان شيباً فهو عجيب كأن شدة ذلك اليوم تنقلهم من سن الطفولية إلى سن الشيخوخة، من غير أن يمروا فيما بين الحالتين بسن الشباب، وهذا هو المبالغة العظيمة في وصف اليوم بالشدة.
وثانيها: أن امتلاء الفودين من الشيب معناه ابيضاض الشعر، وقد يبيض الشعر لعلة مع أن قوة الشباب تكون باقية فهذا ليس فيه مبالغة، وأما الآية فإنها تدل على صيرورة الولدان شيوخاً في الضعف والنحافة وعدم طراوة الوجه، وذلك نهاية في شدة ذلك اليوم.
وثالثها: أن امتلاء الفودين من الشيب، ليس فيه مبالغة لأن جانبي الرأس موضع للرطوبات الكثيرة البلغمية، ولهذا السبب، فإن الشيب إنما يحدث أولاً في الصدغين، وبعده في سائر جوانب الرأس، فحصول الشيب في الفودين ليس بمبالغة إنما المبالغة هو استيلاء الشيب على جميع أجزاء الرأس بل على جميع أجزاء البدن كما هو مذكور في الآية، والله أعلم.
النوع الثاني: من أهوال يوم القيامة قوله: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} وهذا وصف لليوم بالشدة أيضاً، وأن السماء على عظمها وقوتها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق، ونظيره قوله: {إِذَا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] وفيه سؤالان:
السؤال الأول: لم لم يقل: منفطرة؟ الجواب من وجوه: أولها: روى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء، إنما قال: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ} ولم يقل: منفطرة لأن مجازها مجاز السقف، تقول: هذا سماء البيت.
وثانيها: قال الفراء: السماء تؤنث وتذكر، وهي هاهنا في وجوه التذكير وأنشد شعراً:
فلو رفع السماء إليه قوما *** لحقنا بالنجوم مع السحاب
وثالثها: أن تأنيث السماء ليس بحقيقي، وما كان كذلك جاز تذكيره.
قال الشاعر:
والعين بالإثمد الخيري مكحول ***
وقال الأعشى:
فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا أرض أبقل إبقالها
ورابعها: أن يكون السماء ذات انفطار فيكون من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، وأعجاز نخل منقعر، وكقولهم امرأة مرضع، أي ذات رضاع.
السؤال الثاني: ما معنى: {مُنفَطِرٌ بِهِ}؟ الجواب من وجوه:
أحدها: قال الفراء: المعنى منفطر فيه.
وثانيها: أن الباء في (به) مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به، يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله، كما ينفطر الشيء بما ينفطر به.
وثالثها: يجوز أن يراد السماء مثقلة به إثقالاً يؤدي إلى انفطارها لعظم تلك الواقعة عليها وخشيتها منها كقوله: {ثَقُلَتْ فِي السموات والأرض} [الأعراف: 187].
أما قوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} فاعلم أن الضمير في قوله: {وَعْدَهُ} يحتمل أن يكون عائداً إلى المفعول وأن يكون عائداً إلى الفاعل، أما الأول: فأن يكون المعنى وعد ذلك اليوم مفعول أي الوعد المضاف إلى ذلك اليوم واجب الوقوع، لأن حكمة الله تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه، وأما الثاني: فأن يكون المعنى وعد الله واقع لا محالة لأنه تعالى منزه عن الكذب وهاهنا وإن لم يجر ذكر الله تعالى ولكنه حسن عود الضمير إليه لكونه معلوماً، واعلم أنه تعالى بدأ في أول السورة بشرح أحوال السعداء، ومعلوم أن أحوالهم قسمان أحدهما: ما يتعلق بالدين والطاعة للمولى فقدم ذلك والثاني: ما يتعلق بالمعاملة مع الخلق وبين ذلك بقوله: {واصبر على مَا يَقُولُونَ واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل: 10] وأما الأشقياء فقد بدأ بتهديدهم على سبيل الإجمال، وهو قوله تعالى: {وَذَرْنِى والمكذبين} [المزمل: 11] ثم ذكر بعده أنواع عذاب الآخرة ثم ذكر بعده عذاب الدنيا وهو الأخذ الوبيل في الدنيا، ثم وصف بعده شدة يوم القيامة، فعند هذا تم البيان بالكلية فلا جرم ختم ذلك الكلام بقوله:


{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}
أي هذه الآيات تذكرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} واتخاذ السبيل عبارة عن الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية.


{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد من قوله: {أدنى من ثلثي الليل} أقل منهما، وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز وإذا بعدت كثر ذلك.
المسألة الثانية: قرئ {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بالنصب والمعنى أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف (والثلث) وقرئ {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بالجر أي تقوم أقل من الثلثين والنصف والثلث، لكنا بينا في تفسير قوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل: 2] أنه لا يلزم من هذا أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام كان تاركاً للواجب وقوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ} وهم أصحابك يقومون من الليل هذا المقدار المذكور.
قوله تعالى: {والله يُقَدّرُ اليل والنهار} يعني أن العالم بمقادير أجزاء الليل والنهار ليس إلا الله تعالى.
قوله تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: الضمير في {أَن لَّن تُحْصُوهُ} عائد إلى مصدر مقدر أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة، ولا يمكنكم أيضاً تحصيل تلك المقادير على سبيل الطعن والاحتياط إلا مع المشقة التامة، قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر به من قيام ما فرض عليه.
المسألة الثانية: احتج بعضهم على تكليف مالا يطاق بأنه تعالى قال: {لَّن تُحْصُوهُ} أي لن تطيقوه، ثم إنه كان قد كلفهم به، ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد صعوبته لا أنهم لا يقدرون عليه كقول القائل: ما أطيق أن أنظر إلى فلان إذا استثقل النظر إليه.
وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} هو عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر كقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن باشروهن} [البقرة: 187] والمعنى أنه رفع التبعة عنكم في ترك هذا العمل كما رفع التبعة عن التائب.
قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} وفيه قولان: الأول: أن المراد من هذه القراءة الصلاة لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، أي فصلوا ما تيسر عليكم، ثم هاهنا قولان: الأول: قال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء، وقال آخرون: بل نسخ وجوب ذلك التهجد واكتفى بما تيسر منه، ثم نسخ ذلك أيضاً بالصلوات الخمس القول الثاني: أن المراد من قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} قراءة القرآن بعينها والغرض منه دراسة القرآن ليحصل الأمن من النسيان قيل: يقرأ مائة آية، وقيل: من قرأ مائة آية كتب من القانتين، وقيل: خمسين آية ومنهم من قال: بل السورة القصيرة كافية، لأن إسقاط التهجد إنما كان دفعاً للحرج، وفي القراءة الكثيرة حرج فلا يمكن اعتبارها.
وههنا بحث آخر وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال: سقط عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل وصارت تطوعاً وبقي ذلك فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه تعالى ذكر الحكمة في هذا النسخ فقال تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة}.
واعلم أن تقدير هذه الآية كأنه قيل: لم نسخ الله ذلك؟ فقال: لأنه علم كذا وكذا والمعنى لتعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض للتجارة والمجاهدين في سبيل الله، أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم، وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم، وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} [المزمل: 7] فلا جرم ما صار وجوب التهجد منسوخاً في حقه. ومن لطائف هذه الآية أنه تعالى سوى بين المجاهدين والمسافرين للكسب الحلال وعن ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء ثم أعاد مرة أخرى قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وذلك للتأكيد ثم قال: {وأقيموا الصلاة} يعني المفروضة {وآتوا الزكاة} أي الواجبة وقيل: زكاة الفطر لأنه لم يكن بمكة زكاة وإنما وجبت بعد ذلك ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنياً.
قوله تعالى: {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يريد سائر الصدقات.
وثانيها: يريد أداء الزكاة على أحسن وجه، وهو إخراجها من أطيب الأموال وأكثرها نفعاً للفقراء ومراعاة النية وابتغاء وجه الله والصرف إلى المستحق.
وثالثها: يريد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال.
ثم ذكر تعالى الحكمة في إعطاء المال فقال: {وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً من الذي تؤخره إلى وصيتك عند الموت، وقال الزجاج: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً لكم من متاع الدنيا، والقول ما قاله ابن عباس.
المسألة الثانية: معنى الآية: وما تقدموا لأنفسكم من خير فإنكم تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً إلا أنه قال: هو خيراً للتأكيد والمبالغة، وقرأ أبو السمال هو خير وأعظم أجراً بالرفع على الابتداء والخبر، ثم قال: {واستغفروا الله} لذنوبكم والتقصيرات الصادرة منكم خاصة في قيام الليل {أَنَّ الله غَفُورٌ} لذنوب المؤمنين {رَّحِيمٌ} بهم، وفي الغفور قولان:
أحدهما: أنه غفور لجميع الذنوب، وهو قول مقاتل والثاني: أنه غفور لمن يصر على الذنب، احتج مقاتل على قوله بوجهين:
الأول: أن قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يتناول التائب والمصر، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده عنه وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل والثاني: أن غفران التائب واجب عند الخصم ولا يحصل المدح بأداء الواجب، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح، والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5